فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
﴿فَمَن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ (البقرة: 185)..
مرحبًا بطلعة الوليد الوسيم، وبشير الخير العميم: هلال رمضان، ومشرق أنوار القرآن، وشَذَا نفحات الجنان، وواحة الاسترواح في صحراء العام، وراح الأرواح بالصلاة والصيام والقيام؛ فاللهم أهلَّه علينا بالأمن والإيمان، والطمأنينة والسلام، هلال خير ورشد إن شاء الله، والله أكبر الله أكبر والحمد لله، وصدق رسول الله: "إذا أقبل رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلِّقت أبواب النيران، وصفدت الشياطين، ونادى منادٍ من قبل الحق تبارك وتعالى: يا باغي الشر أقصر، ويا باغي الخير هلمّ" (صحيح الإمام البخاري.
لقد بُني الإسلام على شرائع وعبادات، وفرائض وواجبات، كان من جميل صنع الله لعباده فيها أن أقامها على دعائم من الخير وقواعد من البر، تفيدهم في الدنيا وتنفعهم في العقبى، وتسعدهم في الآخرة والأولى.
فالقاعدة الأساسية في العبادة المتقبلة الكاملة: النية الصالحة الفاضلة والإخلاص فيها لرب العالمين ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ (البينة: 5)، و"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ،
فما لم يكن الدافع الأول إلى العبادة قلبيًّا تشترك فيه خلجات الوجدان، مع حركات الأبدان، وتحضر فيه القلوب، وتطهر به الأرواح والنفوس؛ فلا وزن لها ولا مثوبة عليها، وليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، وكم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش.
والقاعدة الثانية دفع الحرج والعسر وإيثار السهولة واليسر، فليس في تكاليف الإسلام وعباداته ما يشقّ على العابدين أو يرهق نفوس المكلفين ﴿مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ (المائدة: 7)، ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ﴾ (الحج: 78)، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (البقرة: 185)، يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا.
وهكذا تتمشَّى هذه القاعدة في كل التكاليف الشرعية والعبادات الإسلامية، وتأمَّل ذلك تجده مطردًا في كل الأحكام، إليك ما جاء منه خاصًا بفريضة الصيام: ﴿أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنْكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 184.
والقاعدة الثالثة أن لهذه العبادات آثارها العملية النافعة في حياة الفرد والجماعة، وليست مفروضةً لمجرد التعبُّد والطاعة، فهي أوضاع لوحظ فيها المعنى الدنيوي الاجتماعي، إلى جانب الربح الأخروي والتهذيب النفساني؛ فما أمر الإسلام إلا بطيب فيه خير يرى الناس في حياتهم العملية أثره، وما نهاهم إلا عن خبيث يلمسون شره وضرره ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النبي الأُمِّيَّ الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ في التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلاَلَ التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الذي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ الأعراف: 157.
فيا أيتها الأمة المسلمة..
قد أظلك شهر الصيام، وفيه ركن من أركان الإسلام، وإن عليك فيه لواجبات وله منك حقوقًا..
أولها: أن تتهيأ النفوس لاستقباله بالتوبة الصادقة النصوح والتطهر الشامل الكامل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النبي وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ (التحريم: 8).
وثانيها: الحرص على صومه حسيًّا ومعنويًّا بالامتناع عن المفطرات، وكفّ الجوارح عن الآثام والمنكرات، وصدق التوجه، ودوام التأمل، وكثرة التذكر، والتفكر في ملكوت الأرض والسموات.
وثالثها: الإكثار من الطاعات فيه، وبخاصة البر والإحسان، وتلاوة القرآن؛ فإن الله يضاعف فيه مثوبة المتصدقين، ويرفع فيه درجات التالين المتدبرين، وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود ما يكون في رمضان، حين يعارضه جبريل- عليه السلام- بالقرآن؛ فلَرسول الله- صلى الله عليه وسلم- أجود بالخير من الريح المرسلة (صحيح الإمام البخاري).
ورابعها: المحافظة على التراويح والقيام ومناجاة الملك العلام؛ فمن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، وكم لهذه الصلاة في قلوب الخاشعين فيها والمعنيين بها من مشارق لامعة وأنوار ساطعة ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ في صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾ (المؤمنون: 1-2.
ولنا بعد ذلك مع الحكومات الإسلامية كلمة هي النصيحة التي لا مفر منها ولا معدي عنها:
لماذا لا تعتبر الإفطار في نهار رمضان جريمة كجرائم الإخلال بالنظام والآداب العامة، وتضع من القوانين ما يردع المفطرين، ويصون حرمة هذا الركن من أركان الدين؟
ولا يكفي أن تصدر الوزارات منشورًا تقليديًّا للموظفين باحترام شهر رمضان، وتنصح بعدم التجاهر ببعض أنواع العصيان، ثم لا تتبع ذلك بالرقابة الزاجرة والعقوبة الرادعة؟
ولماذا لا تجرب الحكومة الحزم ولو مرةً واحدةً؛ فتؤدي بذلك واجبها وتنقذ الناس، و"إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن" (تفسير القرآن العظيم لابن كثير: 3/ 74).
اللهم ألهمنا البر والرشاد، ووفقنا للخير والسداد، إنك أهل التقوى وأهل المغفرة
*استقبال السلف الصالح لهذا الشهر الكريم:*
أخي الحبيب:
ماذا أعددت لرمضان؟ وماذا أعد رمضان لك؟
من الناس من يستقبل رمضان بأن يعد العدة له بشراء ما يلزم من الطعام والشراب، ومنهم من يجهز لهذا الشهر ميزانية مالية تقارب ميزانية العام كله، وكأن رمضان هو شهر التخمة، وكأنه شهر البطون والأجساد، وما درى هؤلاء المساكين أنه ما لهذا شرع الصيام، وإنما شرع الصيام لغاية جليلة، وحكمة بليغة (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)
إن هذا الصنف من الناس قد استقبلوا رمضان استقبالاً جسديًّا، استقبلوه بأجسامهم لا بقلوبهم وأرواحهم.
فهل استقبل قلبك رمضان؟
هل أعددت نية صادقة وعزمًا أكيدًا بين يدي صومك؟
هل أعددت غذاء الروح لتزكية النفوس وتطهيرها في هذا الشهر الكريم؟
أيها الأخ الكريم:
ابدأ هذا الشهر بنية صادقة حرة، وإرادة أكيدة، تأمل بزوغ الهلال، واعزم عزمًا أكيدًا على اغتنام رمضان، وزيادة الإحسان، وهجر الذنوب والعصيان .
ابدأ هذا الشهر بعزيمة صادقة مخلصة على إصلاح نفسك، وتطهير عيبك، ورفع الغفلة عن قلبك، والسعي إلى رضا ربك.
قال الفضيل بن عياض: "إنما يريد الله عز وجل منك نيتك وإرادتك"
فلنبدأ هذا الشهر بتوبة صادقة، وإنابة خاشعة، نتطهر بها من عيوبنا، ونغسل بدموع أوبتنا ذنوبنا، فالذنب لا يغسل إلا بدمع.
فسارع وزاحم في هذا الشهر لتخرج منه مغفورًا لك، "ليس السابق اليوم من سبق بعيره، ولكن السابق من غفر له" .
أيها الأخ الكريم:
لا تجعل أيام رمضان كأيامك العادية، فلتجعلها غرة بيضاء في جبين أيام عمرك، ولا تجعل أيام فطرك وأيام صومك سواء.
قال جابر بن عبد الله: "إذا صمت فليصم سمعك، وبصرك، ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة في يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء" .
• فإذا كنت في غير رمضان متكاسلاً عن الصلاة، فاعقد العزم من هذه اللحظة على عمارة بيوت الله.
• وإذا كنت شحيحًا بالمال، فاجعل من رمضان شهر بذل وجود، فهو شهر الجود والإحسان.
• وإذا كنت غافلاً عن ذكر الله تعالى، فاجعل من رمضان أيام ذكر ودعاء، وتلاوة للقرآن.
أيها الأخ الكريم :
احرص على نظافة صومك، كما تحرص على نظافة ثوبك، وليكن هذا الشهر بداية لاجتناب الفواحش واللغو والآثام.
طهر قلبك من البغض، وطهر عينك من النظر للحرام، وطهر سمعك من سماع ما يغضب الرحمن، وطهر سعيك من كل ما لا يرضاه المنان.
هكذا يعد المؤمن لرمضان، فماذا أعد رمضان للمؤمن؟
لقد جاءك هذا الشهر الكريم يحمل لك العديد من الهدايا الربانية، ومن هذه الهدايا:
الهدية الأولى : باب الريان :
عن سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصائمون، لا يدخل منه غيرهم" (13) وفي رواية "إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه فإذا دخلوا أغلق" وفي رواية: "من دخل منه شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا"
الهدية الثانية : خـلـوف فم الـصـائــم :
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك"
قال مكحول: "يروح أهل الجنة برائحة، فيقولون: ربنا ما وجدنا ريحًا منذ دخلنا الجنة أطيب من هذه الريح، فيقال: هذه رائحة أفواه الصوّام"
الهدية الثالثة : للصائم فرحتان :
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه"
فالنفس تفرح بالفطر في نهاية اليوم طبعًا، لأنها جبلت على الميل لما يلائمها من المشرب والمطعم والمنكح، فتفرح بإباحة ما منعت منه.
فالصائم ترك هذه المباحات طاعة لربه، وتقربًا بها إليه، فمنع منها بأمر ربه، وعاد إليها بأمر ربه، فهو طائع لله عند المنع، وطائع له عند العودة.
والصائم ينتظر الفرحة الكبرى عند لقاء ربه، وقد غفر له ربه، وقد شهد له صومه، وصلاته، وتلاوته، وعندها تكون الفرحة الكبرى ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون)
الهدية الرابعة: غفران الذنوب:
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"
الهدية الخامسة: الوقاية من عذاب الله:
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصوم جنة من عذاب الله"
الهدية السادسة: الشفاعة يوم القيامة:
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقـول الصيـام: أي ربِ: منعته الطعام والشراب والشهوات فشفعني فيه، ويقول القرآن: منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان".
واجبات عملية في الليلة الأولى:
1 – النية الصادقة مع الله والعزم الأكيد للإقلاع عن الذنوب والمعاصي والآثام.
2 – تحديد ورد قرآني، وتجهيز مصحف معين للقراءة فيه، ليكن شعارك:( مصحف في جيبك كنز في قلبك )
3 – اضبط منبهك للاستيقاظ قبل الفجر بوقت مناسب لتناول طعام السحور، وصلاة ركعتين، ثم الذهاب لصلاة الفجر في المسجد مصطحبًا أولادك أو إخوتك.
4 – اتصل بخمسة من أقاربك وأصدقائك لتهنئتهم بحلول الشهر الكريم.
بلغنا الله وإياك رمضان وأعاننا على صيامه وقيامه
اقرؤوا أيضا...
|
2017.05.25 بيان المجلس الأوروبى للإفتاء والبحوث حول بداية شهر رمضان 1438هـ |
|
2017.05.22 5 خطوات للاستعداد لرمضان |
|
2017.05.11 وقفات تربوية مع شهر شعبان |