المنهج الإيماني والوعي بسنن الحياة
كل العبادات تقوم على مبدأ التذكير الدائم وعدم الغفلة:
اعتمَد الإسلام في نظامه الاجتماعي والتربوي على مجموعة من القواعد والضوابط العامَّة، النَّابعة من العقيدة والشريعة، هدَفت أساسًا إلى تقوية العلاقات بين الإنسان وخالقه - سبحانه وتعالى - وبينه وبين الكون عامة، ومن خلال هذين الأصلين تفرَّعت مذهبيَّة الإسلام في مختلف شؤون الحياة، وبتعبير القرآن الكريم، فإنَّ البشر جميعًا يَربطهم رابطٌ أكبر من الأرض والجنس واللون، هو رابط العبادة؛ ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 31]، ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾ [البينة: 5].
على أنَّ العبادة في مفهومها القرآني تتعالَى بكثيرٍ من الشمول على دائرة الشعائر، ومجرَّد الصفاء الرُّوحي للاتصال بالله تعالى، فهذا الأمر مكفولٌ بالطَّهارة والتوجُّه والدعاء، ولكنَّ العبادة تجربة حياةٍ كاملة، تُنظِّم حركات الجماعات البشريَّة وفعالياتها جميعًا، بحيث تُزوِّدها بمعنًى للحياة يتجاوز قضيَّة العيش اليوميَّة، ومطالب الإشباع المادي، وهذا هو معنى الدين ودوره في الحياة. ففي الإسلام تتداخل مفاهيم الدين والدنيا، والعبادة والحياة؛ لتكوِّن جميعها وَحدةً إيجابيَّة تتجاوز النظرة الأحادية، التي تَفصل بين مكوِّنات الإنسان، أو تُخاطبه في جانب واحدٍ من جوانبه العديدة، وهذا معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفلا أكون عبدًا شكورًا؟!))؛ صحيح مسلم، (8 / 141). حيث يؤسِّس مبادئ المراقبة الدائمة والنزاهة، والعِرفان بالجميل والشكر، فضلاً عن مستويات التقوى والترقِّي في الفضائل والأعمال، مُتقدِّمًا مقام الخوف والطمع.
قال الشيخ الطاهر بن عاشور - رحمه الله - مؤكِّدًا هذه المعاني: "إنَّ الله تعالى خلَق هذا العالم؛ ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى: الوجود، والعلم، والقدرة، وجعَل قَبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ عِلمه وقُدرته من عِلم الله تعالى وقُدرته، وأودَع فيه الرُّوح والعقل اللذَين بهما يَزداد التدرُّج في الكمال؛ ليكون غير قانعٍ بما بلَغه من المراتب في أَوْج الكمال والمعرفة، وأرشَده وهداه إلى ما يَستعين به على مرامه؛ ليَحصل له بالارتقاء العاجل رُقيٌّ آجِل لا يضمحلُّ، وجعَل استعداده لقَبول الخيرات كلِّها - عاجلها وآجلها - متوقِّفًا على التلقين من السَّفَرَة المُوحَى إليهم بأصول الفضائل، ولَمَّا توقَّف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَداتها - وكانت تلك المُراقبة تَحتاج إلى تذكُّر المُجازي بالخير وضده - شُرِعت العبادة لِتَذَكُّر ذلك المُجازي؛ لأنَّ عدمَ حضور ذاته واحتجابَه بسُبُحات الجلال، يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس"؛ تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984، ج (1)، ص (180).
إنَّ الأمر المُعتبر في الفعل البشري توجُّهه إلى الله تعالى، فكلُّ عملٍ أو فكرةٍ، أو شاردة أو واردة، يقوم بها الفرد ضمن تلك الوحدة - إنما يبتغي بها وجه الله تعالى، وهو - سبحانه - غنيٌّ عن العالمين لا مَحالة، وبذلك يُصبح وجه الله مرادفًا لخير الإنسان وسعادته أينما كان، وربما كان هذا فارقًا مهمًّا بين مذهبيَّة الإسلام وغيره من النظريَّات والفلسفات.
ومن روائع الربط في القرآن الكريم بين التعبُّدي والاجتماعي قوله تعالى: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37].
إيماء - كما ذكر الطاهر بن عاشور رحمه الله - إلى أنَّ إراقة الدماء وتقطيع اللحوم، ليسا مقصودين بالتعبُّد، ولكنَّهما وسيلة لنفْع الناس بالهدايا؛ إذ لا يُنتفع بلحومها وجلودها وأجزائها، إلاَّ بالنَّحر أو الذبح، وإنَّ المقصد من شرْعها انتفاعُ الناس المُهْدِين وغيرهم؛ تفسير التحرير والتنوير، (9/ 353).
إنَّ الانتماء الإسلامي في بُعده الإيماني، لا يتعلَّق بشعارات تُرفع، أو مكاسب تُجلَب، كما هو حاصل اليوم عند كثيرٍ من الفرق والأحزاب، بل هو بإيجازٍ: تقريرٌ خارجي باللسان، وتوقير داخلي بالقلب، وتصديقٌ نافذ بالعمل.
من شواهد الوعي الإسلامي الشامل:
عندما فَهِم المسلمون الوَحدة العضويَّة الرابطة بين العلم والعمل، والدين والدنيا، فتَحوا مناطق كبيرة من العالم، وهيْمَنوا بثقافتهم على أغلب الأُمم، لا بالسيف والقوة - كما يظنُّ بعض الجاهلين - بل بالهداية والإقناع، والقدوة الحسَنة.
وشاهدٌ من التاريخ نَسوقه على هذا الفَهْم، هو نموذج الملك العادل نور الدين زنكي - رحمه الله -: افتَتح دمشق في سنة خمسمائة وتسع وأربعين، فأحسَن إلى أهلها، وبنى لهم المدارس والمساجد والرُّبُط، ووسَّع لهم الطرق على المارَّة، وبنى عليها الرصافات، ووسَّع الأسواق، ووضَع المكوس، وكان يحبُّ العلماء والفقراء، ويُكرمهم ويَحترمهم، ويُحسن إليهم، وكان يقوم في أحكامه بالمعدلة الحسنة، واتِّباع الشرع المُطهَّر، ويَعقد مجالس العدل ويتولاَّها بنفسه، ويَجتمع إليه في ذلك القاضي والفقهاء والمُفتون من سائر المذاهب، ويَجلس في يوم الثلاثاء بالمسجد المعلَّق الذي بالكُشك؛ ليصلَ إليه كلُّ واحد من المسلمين وأهل الذمَّة؛ حتى يُساويَهم، وأحاطَ السور على حارة اليهود وكان خرابًا، وأظهَر ببلاده السُّنة وأمَات البدعة، وأقام الحدود وفتَح الحصون، وكسَر الفرنج مرارًا عديدة، واستنقذَ من أيديهم معاقلَ كثيرة من الحصون المنيعة، التي كانوا قد استحوَذوا عليها من معاقل المسلمين.
وأقطع العرب إقطاعات؛ لئلاَّ يتعرَّضوا للحجيج، وبنى بدمشق مارستانًا لَم يُبنَ في الشام قبله مثله، ولا بعده أيضًا، ووقَف وقفًا على مَن يعلِّم الأيتام الخطَّ والقراءة، وجعَل لهم نفقةً وكسوة، وعلى المجاورين بالحرَمين، وله أوقاف داره على جميع أبواب الخير وعلى الأرامل والمحاويج.
وأضافَ إلى أوقاف الجامع المعلومة الأوقافَ التي لا يُعرف واقفوها، ولا يُعرف شروطهم فيها، وجعَلها قلمًا واحدًا، وسَمَّاه مالَ المصالح، ورتَّب عليه لذَوِي الحاجات والفقراء والمساكين، والأرامل والأيتام، وما أشبه ذلك.
وقد كان - رحمه الله - حسنَ الخطِّ، كثير المطالعة للكتب الدينيَّة، مُتبعًا للآثار النبويَّة، محافظًا على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، مُحبًّا لفعل الخيرات، عفيفَ البطن والفرْج، مُقتصدًا في الإنفاق على نفسه وعياله في المطعم والملبس؛ حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه، أعلى نفقةً منه من غير اكتنازٍ ولا استئثارٍ بالدنيا، ولَم تُسمع منه كلمة فُحشٍ قطُّ في غضبٍ ولا رضا، صَموتًا وقورًا.
قال ابن الأثير: لَم يكن بعد عمر بن عبدالعزيز مثل الملك نور الدين، ولا أكثر تحرِّيًا للعدل والإنصاف منه"؛ البداية والنهاية، (12 / 278).
القرآن الكريم ومطالب الوعي والتذكير:
لقد استفادَ المسلمون من دروس التاريخ قرآنيًّا وميدانيًّا، باعتبارها سجلَّ التجارب الإنسانيَّة، كما أرشدَهم القرآن الكريم إلى ذلك في مثل قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [يوسف: 111].
فهذا القَصص هو خِبرة وموعظة يَلتمس منها المسلم الذكرى أولاً، وهذه الكلمة من المصطلحات المهمَّة في القرآن الكريم؛ فقد ورَد ذكرُها - هي ومترادفاتها - أكثر من ثلاثين مرَّة، وقد يكون السرُّ في ذلك مرتبطًا بمفهوم العبادة والمطالب الشرعيَّة؛ حيث نجد أنَّ جميع العبادات في الإسلام تقوم على مبدأ التذكير الدائم وعدم الغفلة؛ ولذلك كانت الصلاة خمس مرَّات؛ لتذكير الإنسان دائمًا بحقيقة الوجود والمَغزى من حياته ورسالته في الكون.
والأذان نفسه ذلك النداء الخالد العَذب، إنما يَبعث في نفس المسلم الشعور الدائم بأنَّ الله أكبر من كلِّ شيءٍ.
أمَّا النُّطق بالشهادتين وكلمة التوحيد في السرِّ والعَلن، وفي الرخاء والْمِحَن، فهي شعار المسلم ورائده في الحياة؛ إذ فيها إحياءٌ للقلب وتجديدٌ للإيمان، وتذكيرٌ بأنه يُشارك المخلوقات جميعًا تسبيحَها الدائم أنْ لا اله إلاَّ الله.
استعمَل القرآن الكريم كلمة التذكير في عدة مستويات؛ منها: ذِكر الله تعالى في مثل قوله - سبحانه -: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 191]، ولذلك فإن من أسماء القرآن الذِّكر؛ ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
واستعمَل القرآن مصطلح الذكرى في مستوًى آخرَ، هو الهداية والتذكير، وقد ورَد في واحد وعشرين موضعًا؛ منها: قوله تعالى: ﴿ تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 8].
وفي مستوًى ثالث يأتي المصطلح بصيغة "تذكرة" في مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾ [الإنسان: 29].
وفي كلِّ هذه المستويات وغيرها، إشارات بالغة الدَّلالة إلى مطلب اليقظة وعدم الغفلة، والوعي الدائم بحقيقة النفس والتاريخ والحياة كلِّها.
إنَّ الإسلام باعتباره عقيدةً وشريعة، غطَّت تعاليمه جميع الدوافع والمطالب المؤدِّية إلى اليقظة الدائمة، وجاء هدْيه تزكيةً شاملة لفقه الواقع والتصالُح معه ومواكبته، ودعوةً صريحة لتأسيس هذا الوعي في واقع العباد.
على أنَّ الاستبصار بدروس التاريخ وسُنن الحياة، لا يعني مجرَّد القراءة التاريخيَّة كما هو حاصل في علم التاريخ، بل المقصود أن تكونَ الأجيال المسلمة واعيةً على الدوام بمسيرة السُّنن الكونيَّة في الإنسان والطبيعة والمجتمع.
ومن هذه الدروس مثلاً: تحقيق الشورى في الحكم، وتركيز العدل والخير في المجتمع، والالتزام بالحقِّ في المعاملات، والمساواة في توزيع الثروات والأموال، والإبداع في العلم والحِكمة في العمل، فكلُّ هذه المسالك من أدوات الفقه بسُنن الله التشريعيَّة والكونيَّة، وهي التي تُنير طريق المسلمين في حاضرهم ومُستقبلهم، وتُجنِّبهم التخلُّف والانحطاط.
وقد قامَت مهمَّة المصلحين والمُفكِّرين من أهل الإسلام أساسًا على فرضيَّات التفهيم والتذكير بهذه الأصول والقواعد على مرِّ التاريخ.
ولو تأمَّلنا هذه المطالب والسُّنن، لوجَدنا أنها كانت السبب الأساسي في إخراج أُمة العرب من الظلمات إلى النور، وإخراج الشعوب معها من طور البداوة والخُرافة والاستعباد، إلى آفاق الحقِّ والخير والانعتاق؛ حيث مثَّلت نقلة حضاريةً مُعتبرة، بفضْل الوعي بمنهج القرآن ورسالة الاستخلاف، التي شملَت إصلاح الفكر والسلوك، وتَهذيب العقل وبناء الشخصيَّة، بفضْل الوعي المُستنير لمفهوم العبوديَّة لله، التي جعلَت منهم أسيادًا يُحقِّقون ممارسة عالية من الحريَّة والكرامة، والتقدُّم في مجال العطاء والخير والمعرفة.
ونفس المطالب تُبصِّرنا بحقيقة التردِّي الذي وقَع فيه المسلمون، وأسباب الهزيمة والتخلُّف، فما كان جذوةً وهداية وفاعلية، انطفَأ وتحوَّل إلى فتورٍ وانحلالٍ، وما كان علمًا وجهادًا، انقلَب إلى جهلٍ وخمولٍ.
عندما تغلَّب تيَّار الذين لَم يتنوَّروا برسالة الإسلام ودعوته الخالدة، بدَأ العد التنازلي وسادَت التراكمات السلبيَّة، وانتقَل العدل إلى استبدادٍ، والحزم إلى ترفٍ، وهي ضريبة طبيعيَّة للخروج عن مبادئ الحقِّ والرشاد، وقديمًا قال ابن تيميَّة: "إن الله يُقيم الدولة العادلة، وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الدولة الظالمة، وإن كانت مسلمة"؛الاستقامة،(2/ 247).
وهذا فَهْمٌ رشيد لمنطق الأسباب الذي تحدَّثت عنه آيات القرآن الكريم؛ قال تعالى: ﴿ وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴾ [الأنبياء: 11].
فالظلم - أيًّا كانت طبيعته، أو كان مصدره - سبب في إهلاك المجتمعات وفنائها، والبقاء يكون دائمًا للأصلح حسب المفهوم القرآني؛ ﴿ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ﴾ [الرعد: 17].
ولأنَّ مسيرة التاريخ ليستْ حياديَّة تُجاه الأفراد والمجتمعات، فإنَّ التداوُل الذي أشارَت إليه الآية الكريمة: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ﴾ [آل عمران: 140]، يسير وَفْق قانون عادل، وقسطاس مستقيم، لا يُحابي أحدًا ولو كان نبيًّا، وفي غزوة أُحد أكبر الدروس حول حقيقة هذا المطلب، فلم يَشفع وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في منْع المُصيبة التي حلَّت بالمسلمين، بعد أن خالَفوا سُنن الحق وقوانين الحرب، ونفس الدرس نَستقيه من غزوة حُنين؛ حيث لَم تَشفع الكثرة في حماية المسلمين من فتنة كبيرةٍ، كادَت تقضي عليهم بسبب عدم الأخْذ بأصول الحذَر، والتواضُع لله - سبحانه وتعالى.
اتِّساع أفعال العبادة:
قال الإمام الرازي مُعلِّقًا على الآية الكريمة: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56 - 57]: "العبادة التي خُلِق الجنُّ والإنس لها، هي التعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلْق الله، فإنَّ هذين النوعين، لَم يخلُ شرعٌ منهما، وأمَّا خصوص العبادات، فالشرائع مختلفة فيها؛ بالوضْع والهيئة، والقِلَّة والكثرة، والزمان والمكان، والشرائط والأركان"؛ مفاتيح الغيب، (8/ 200).
لقد اتَّبع القرآن - في تربيته لشخصيَّات الناس، وفي تغيير سلوكهم - أسلوب العمل والممارسة الفعليَّة للأفكار، والعادات السلوكيَّة الجديدة؛ ولذلك فرَض الله - سبحانه وتعالى - العبادات المختلفة، التي تُعلِّم المؤمن الطاعة لله، والامتثال لأوامره، كما تُعلِّمه حبَّ الناس والإحسان إليهم، وتُنمِّي في نفسه رُوحَ التعاون والتكافل الاجتماعي؛ محمد عثمان نجاتي؛ القرآن وعلم النفس، ص (236).
"إن عبادة الله هي أعلى مراتب الخضوع والتذلُّل، هي اسمٌ لِما يحبُّه ويرضاه من الأقوال والأفعال، والأعمال الظاهرة والباطنة، ومن الألفاظ ذات الصِّلة: "القربة"، وهي: ما يُتقرَّب به إلى الله فقط، أو مع الإحسان للناس؛ كبناء الرِّباط والمساجد، والوقف على الفقراء والمساكين"؛
الموسوعة الفقهية الكويتية، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
وصَفَت فاطمة بنت عبدالملك زوجها عمر بن عبدالعزيز الخليفة الأموي بقولها: "والله ما كان بأكثركم صلاةً ولا صيامًا، ولكن والله ما رأيتُ عبدًا أشدَّ خوفًا لله من عمر، كان همُّه بالناس أشدَّ من همِّه بأمر نفسه, قد فرَّغ بدنه ونفسه للناس, يَقعد لحوائجهم يومه, فإذا أمسى وعليه بقيَّة من حوائجهم، وصَله بليلته؛ أبو يوسف؛ كتاب الخَراج، ص (16).
تلك شهادات حيَّة على اتِّساع الفعل العبادي، وأنَّ التقرُّب إلى الله يتمُّ أيضًا عبر الاقتراب من الخلْق وخِدمتهم، فعبادة الله تعالى تقوم أساسًا على التوفيق والتكامل بين مسلكي الشعائر التعبُّديَّة والإصلاح، يظهر ذلك في الرَّبط الوثيق والدائم في القرآن الكريم بين الشعائر التعبُّديَّة والعمل الصالح.
موقع الاولوكة
اقرؤوا أيضا...
|
2015.01.12 ما أحوجنا إلى الوسطية في هذا العالم المتطرف |
|
2015.01.09 هكذا كان محمد صلى الله عليه وسلم |
|
2015.01.08 معايير الخطة الناجحة |