الهجرة منظومة متكاملة ارتبطت برسالة الإسلام
الدكتور إسماعيل القاضي - رئيس الاتحاد
سنة الهجرة ارتبطت بفكرة ولم ترتبط بشخص من حيث ميلاده أو من حيث وفاته، على عظم الأشخاص الذين نقر بفضلهم وأفضليتهم، إلا أن هذه السنة ارتبطت بفكرة الهجرة بشكل خاص، فما الحكمة من أن ترتبط الأيام والشهور والأسابيع بفكرة وأن لا ترتبط بشخص؟.
من حكم هذا الأمر أن يفكر الإنسان دائما، في كل يوم من أيام هذه السنة، أن يفكر وأن يدندن حول فكرة الهجرة، وماذا تعني كلمة الهجرة، فإذا ما استيقظت صباحاً فقل: اليوم هو العاشر أو السابع من محرم، من صفر، من ربيع الأول، من العام 1430 من الهجرة، هذه السنة التي عنونت بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، عنونت بحركة وفكرة، فماذا علي أن أفعل حتى أُحقق الانتساب لهذه السنة؟ علي أن أهاجر.
تهاجر من أين وإلى أين؟
تهاجر من السيئ في الفعل والقول إلى الحسن في الفعل والقول، وإذا كنت في حال حسنة فهاجر من حسن إلى أحسن، وهكذا ما للترقي انتهاء.
في كل يوم آمل من جميع إخواني المسلمين أن يعيشوا الهجرة فكرة تدفعهم وتحرضهم على حركة إيجابية وليذكروا في هذا المقام على سبيل المثال ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الطبراني: "إذا أتى علي يوم لا أزداد فيه علماً يقربني إلى الله فلا بورك لي في شمس ذلك اليوم ". اقترب من الله ، هاجر من بعيد عن الله إلى قريب من الله، من قريب من الله إلى أقرب من الله عز وجل، وهكذا.
يؤسفني أن أقول لنفسي ولإخواني بأننا، في غياب عن معرفة أيام السنة الهجرية، ولو سألت البعض عدد لي شهور السنة الهجرية، (أصدقكم الحديث إن عدداً لا بأس به لم يعرف الأشهر الهجرية)، ولعله تَعرف على شهرين ونسي الأشهر الأخرى، أو لعل بعضهم تذكر ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر ونسي الأشهر الأخرى، أو أن بعضهم عرفها ولكن لم يعرف فيما إذا كان صفر قبل جمادى أو بعد ربيع الأول أو قبله، هذا في ساحة الجهل بالنسبة له.
تلك ثقافة وهذا انتماء
تلك ثقافة وهذا انتماء، ولا يقولن أحد لي: وما الذي يهمني إن حفظت الأشهر الهجرية أو لم أحفظها؟.
أقول: هذه ثقافة الانتماء، أنت تنتمي لمن هاجر، أفلا يجدر بك أن تعرف السنة التي عنونت بحركة هذا الحدث العظيم، بهذه الفعلة الرائعة، بالهجرة النبوية الشريفة.
أراد سيدنا عمر رضي الله عنه أن يذكر الإنسان بضرورة السلوك وبضرورة الحركة وبضرورة التحسن وبضرورة التعامل مع الهجرة على أساس دائم، وكأن سيدنا عمر أراد منك يا مسلم أن تذكر الهجرة في كل يوم وأن تسقط الهجرة على نفسك في كل يوم وفي كل حركة وفي كل سلوك، عليك أن تسأل نفسك ما موقفك من الهجرة؟ موقفك من الهجرة أنت أن تهاجر في كل يوم، كيف أهاجر يا أخي؟ هاجر من السيء إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، عليك أن تتذكر في كل يوم الهجرة والهجرة بالنسبة لك عنوان جميل وينبغي أن تعيشه.
لذلك أدعو نفسي وإياكم إلى أن نتحقق بالهجرة بالكلمة الرائعة بعنوان تاريخنا.
أيها الإخوة ...
الهجرة - هذا المصطلح - لم يعد مصطلحا تاريخيا فحسب، ولم تعد الهجرة قيمة تاريخية فقط، حينما نذكر الهجرة فلا نذكر حركة أو فعلة قام بها سيدنا محمد فحسب، ليست الهجرة قيمة تاريخية فحسب، بل الهجرة مصطلح دخل قاموس الفكر والعمل الإسلامي بقوة، وأصبح يشكل منظومة يجب أن تكون أمام أعيننا دائما وباستمرار، وأن لا تغادر قلوبنا وعقولنا وتخطيطنا لمستقبل نريد أن نعيشه، ونريد للإنسان أن يعيشه، هذا المستقبل يتسم بالعدالة والحق والفضيلة والرشد.
منظومة الهجرة إنسانية ربانية خيرية، ماضية وحاضرة ومستقبلية.
منظومة الهجرة تقوم على أركان، فها نحن نستقبل سنةً هجرية، وأريد من المسلمين أن يعرفوا الرقم الذي وصلنا إليه، لأنه من المؤسف أن كثيرا منا حتى لو اعتبروا الهجرة قيمة تاريخية فهم لم يعودوا يلتفتوا إليها بشكل صحيح. يؤسفنا أن نجد البعض لا يعرف رقم السنة الهجرية التي نعيش رأسها هذا اليوم، ولا يعرف أسماء الأشهر الهجرية وترتيبها، وربما لا يعرف الفرق بينها وبين الأشهر الميلادية.
لقد مرت علينا سحابات داكنة أمطرتنا بوابل من التفاهات، لئن سألته عن الأشهر الهجرية أجابك بقوله: وما الذي يعود علي بالنفع حين أحفظ الأشهر الهجرية؟ وما الذي يعنيني في النتيجة؟!.
نقول له: وما الذي يعنيك من إسلامك أيضا، لأن مثل هذه الأجوبة سينسحب حتى على الصلاة والصيام والحج وعلى غبرها من أوامر الإسلام.
الجواب على كل هذه التساؤلات، أن نقول له من فمك ندينك، فأنت تقول عن نفسك بأنك مسلم، وأنك تنتمي للأمة الإسلامية، هيا فقل لنا بأنك لست كذلك لنبدأ الحديث والحوار من جانب آخر معك. لماذا؟ لأننا نريد أن نحقق وجوداً مادياً ومعنوياً.
الهجرة منظومة إسلامية عظيمة تحمل فكراً وحركة وعملا وإنسانية ورحمة ورسالة، وتحمل مختصر الإسلام في كل ميادينه، وحين نذكر الهجرة نذكر الإسلام باختصار.
منظومة الهجرة تقوم على أمور:
أولا: تقوم على تضحية.
وهل الإسلام إلا تضحية، وكلنا يعلم أن سيدنا محمدا عليه ضحى وهاجر، ضحى بالغالي، ضحى بالوطن مكة، وقد وقف أمامها (وقد ولد ونشأ فيها، وهي مهوى الأفئدة)، وقال كما يروي البيهقي: "والله إنك لأحب بلاد الله عندي، ولولا أن قومك أخرجوني ما خرجت".
الهجرة منظومة تقوم على تضحية: (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره ...).
ثانيا: تقوم منظومة الهجرة على إعداد.
وكلنا يعلم أن الهجرة أُعد لها إعدادا دقيقا استخدمت فيها التكتيكات والاستراتيجيات، فرسول الله انتظر الأمر الإلهي، وهذا أساس في الإعداد، نحن نعد بناء على أمر إلهي، والله عز وجل قال لنا: (وأعدوا)، الرسول في الإعداد انتظر الأمر الإلهي أولا، ثم انتظر صاحبا أو حليفا هو سيدنا أبو بكر، وثالثا وضع له خليفا هو سيدنا علي.
الإعداد يقوم على الأمر الإلهي وعلى اختيار الحليف والخليف، فمن حلفاؤكم أيها الإخوة؟!، واختيار المضيف فمن الذي يستقبلك؟
لقد هيأ رسول الله من خلال الإعداد من يستقبله في المدينة المنورة، فقد أرسل قبل الهجرة أناسا مبشرين ممهدين يخططون، واختيار الطريق والمسار، وقد هاجر رسول الله عن طريق البحر، مضحياً وباذلا الجهد الكبير وهو في الثالثة والخمسين من عمره.
يقوم الإعداد على ربط الخليف والحليف والمضيف بالحب لله تعالى، فعلي كان يحب أبا بكر، وأبو بكر كان يحب علياً، وأهل المدينة كانوا يحبون أبا بكر وعلياً، والكل كانوا مرتبطين بوشيجة الحب.
الهجرة منظومة تقوم على التضحية والإعداد، وهي مختصر للإسلام وإسقاط مكثف للإسلام على الأرض، وأسقط تطبيقا وتنفيذا من خلال الهجرة، لأن الإسلام تضحية وإعداد، ورسول الله أعد.
ثالثا: تقوم منظومة الهجرة على الثقة بالله.
نحن نقول اليوم إن الأزمةَ أزمة ثقة بالله، وهذه الثقة تتجلى في أكثر من موطن في هجرة المصطفى، ولا أدل على ذلك من قول النبي الذي نستمتع بذكره حينما قال لأبي بكر، وقد قال له أبو بكر: يا رسول الله لو نظر أحدهم إلى أخمص قدمه لرآنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما. (ثاني انثنين إذ هما في الغار، إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا)، ونحن نقول لإخواننا في فلسطين لا تحزنوا إن الله معنا، ولكن آمل أن يكون هذا الدعاء قائما على ثقة.
إن إخواننا في فلسطين يقولون لبعضهم: لا تحزنوا إن الله معنا وناصرنا (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، و(وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد).
أخيرا: منظومة الهجرة تقوم على المبدأ الحق.
والإسلام حق، ومن شك في الإسلام فليقدم لنا هذا الشك عبر عبارات تليق بهذا الإنسان، ولا نريد الشك في عبارات شاتمة أو عبارات فيها فحشاء وتهكم، أو عبارات تدلل على حقد في هذا الشاك. وإذا كنتم تعتقدون - ونحن نعتقد - أن هذا القرآن من عند الله، وأنا أريد أن أثبت هذا في أنفسنا قبل أن أثبته في نفوس الغير، فالله يقول: (ورضيت لكم الإسلام دينا). فالهجرة تقوم على منظوم حق والإسلام هو الحق.
يا أيها الناس في الأرض كافة ...
إذا أردتم مبدأ حقا فعليكم بالإسلام، أنا لا أقول عليكم بالمسلمين، ولكن عليكم بالإسلام الذي يجليه القرآن الكريم والرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمعطيات العامة التي جاءت من خلال ما أفرزته الآيات والسنة المطهرة الشريفة.
منظومة الهجرة تقوم على التضحية والإعداد والثقة بالله والمبدأ الحق واعتناقه. أخبرنا عن مبدئك الذي تعتنقه، وعن قناعاتك المذهبية والمبدئية. هل أنت متحلل من أي مبدأ؟ هل أنت إباحي لا تريد الالتزام بمبدأ ما؟ نحن نطرح عليك الإسلام ولا نطرح عليك المسلمين. فهذا أمر وذاك أمر آخر.
أسأل الله عز وجل أن يعيد علينا الأشهر الهجرية، وليس السنة الهجرية، فنحن طامعون في فضل الله وعطائه أن يعيد علينا الشهر تلو الشهر وقد تحققت آمالنا، وانتهت آلامنا، وتحررت قدسنا، ، وتمحص الحق وظهر.
نرجو الله عز وجل أن يعيد علينا الأشهر الهجرية وقد اتحد المسلمون، فعلي يحب أبا بكر، وأبو بكر يحب عليا، وقد اتحد المسلمون في كل بقاع الأرض على ثوابت وأسس، هذه الثوابت هي: آمنت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن كتاباً، وبمحمد نبياً. هذه ثوابتنا.
أسأل الله أن يعيد الأشهر الهجرية وقد اتحد المسلمون، تذكروا هجرة سيدكم وسيدنا، وحبيبكم وحبيبنا، لأنكم مسلمون، والمسلم النظيف يحب محمداً، لأن محمداً نبي عظيم في نبوته، لأن محمداً شخصية إنسانية عظيم في إنسانيته، وهو محك القلوب الطيبة فمن أحبه من القلوب فالقلب طيب، ومن أبغضه فالقلب خبيث.
خطبة الرسول صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة
حمد الرسول الله وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، أيها الناس: فقدموا لأنفسكم، تعلمن والله ليصعقن أحدكم – أي ليموتن – ليصعقن أحدكم ثم ليدعن غنمه ليس لها لا راع – الموت يأتيك من غير أن يستأذنك – ثم ليقولن له ربه ليس له ترجمان ولا حاجب يحجبه: ألم يأتك رسولي فبلغك؟، ألم أعطك مالا وأفضلت عليك؟، فما قدمت لنفسك؟، ألم يأتك رسولي فبلغك؟، وفي رواية (وآتيتك مالا وأفضلت عليك فما قدمت لنفسك؟)، فلينظرن يمينا وشمالا فلا يرى شيئا، لأنه مع ربه، ولينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع أن يقي وجهه من النار ولو بشق تمرة فليفعل، ومن لم يجد فبكلمة طيبة - أين الكلام الطيب بيننا – فإنها تجزى الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، والسلام عليكم ورحمة الله".
هذه خطبة رسول الله عليه وآله الصلاة والسلام، فأين نحن يا إخوتي من كلام الحبيب المصطفى؟!.
اقرؤوا أيضا...
2009.09.24 لمسات من العطر في عيد الفطر |
|
2009.09.15 سمات الأقليات المسلمة في الغرب |
|
2009.08.27 رمضان بداية التغيير .. خطوات عملية |
التعليقات:
جزاك الله خيرا دكتور على هذا المقال الرائع